الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*3* الشرح: قوله (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا) لم أر لفظ هذا في رواية الأكثر، لكنه ثابت في لفظ الخبر الأول. الحديث: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ قَالَ أَبُو ذَرٍّ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرَّةِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ فَقَالَ يَا أَبَا ذَرٍّ قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمْضِي عَلَيَّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ إِلَّا أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللَّهِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ثُمَّ مَشَى فَقَالَ إِنَّ الْأَكْثَرِينَ هُمْ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ثُمَّ قَالَ لِي مَكَانَكَ لَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ ثُمَّ انْطَلَقَ فِي سَوَادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى فَسَمِعْتُ صَوْتًا قَدْ ارْتَفَعَ فَتَخَوَّفْتُ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَرَضَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرَدْتُ أَنْ آتِيَهُ فَذَكَرْتُ قَوْلَهُ لِي لَا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ فَلَمْ أَبْرَحْ حَتَّى أَتَانِي قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتًا تَخَوَّفْتُ فَذَكَرْتُ لَهُ فَقَالَ وَهَلْ سَمِعْتَهُ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ ذَاكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي فَقَالَ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ الشرح: قوله (حدثنا الحسن بن الربيع) هو أبو علي البوراني بالموحدة والراء وبعد الألف نون، وأبو الأحوص هو سلام بالتشديد ابن سليم. قوله (فاستقبلنا أحد) في رواية عبد العزيز بن رفيع " فالتفت فرآني " كما تقدم وتقدم قصة المكثيرين والمقلين، وقوله "فاستقبلنا أحد " هو بفتح اللام، وأحد بالرفع على الفاعلية. وفي رواية حفص بن غياث " فاستقبلنا أحدا " بسكون اللام وأحدا بالنصب على المفعولية. قوله (فقال يا أبا ذر، فقلت: لبيك يا رسول الله) زاد في رواية سالم بن أبي الجعد ومنصور عن زيد بن وهب عند أحمد " فقال: يا أبا ذر أي جبل هذا؟ قلت: أحد " وفي رواية الأحنف الماضية في الزكاة " يا أبا ذر أتبصر أحدا؟ قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار، وأنا أرى أن يرسلني في حاجة له فقلت: نعم". قوله (ما يسرني أن عندي مثل أحد هذا ذهبا تمضي علي ثالثة وعندي منه دينار) في رواية حفص بن غياث (ما أحب أن لي أحدا ذهبا يأتي علي يوم وليلة أو ثلاث عندي منه دينار) وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش عن أحمد " ما أحب أن لي أحدا ذاك ذهبا " وفي رواية أبي شهاب عن الأعمش في الاستئذان " فلما أبصر أحدا قال: ما أحب أنه تحول لي ذهبا يمكث عندي منه دينار فوق ثلاث " قال ابن مالك تضمن هذا الحديث استعمال حول بمعنى صير وأعمالها عملها، وهو استعمال صحيح خفي على أكثر النحاة، وقد جاءت هذه الرواية مبينة لما لم يسم فاعله فرفعت أول المفعولين وهو ضمير عائد على أحد ونصب ثانيهما وهو قوله " ذهبا " فصارت ببنائها لما لم يسم فاعله جارية مجرى صار في رفع المبتدأ ونصب الخبر. انتهى كلامه. وقد اختلفت ألفاظ هذا الحديث، وهو متحد المخرج فهو من تصرف الرواة فلا يكون حجة في اللغة، ويمكن الجمع بين قوله " مثل أحد " وبين قوله " تحول لي أحد " يحمل المثلية على شيء يكون وزنه من الذهب وزن أحد، والتحويل على أنه إذا انقلب ذهبا كان قدر وزنه أيضا. وقد اختلفت ألفاظ رواته عن أبي ذر أيضا: ففي رواية سالم ومنصور عن زيد بن وهب بعد قوله قلت أحد قال " والذي نفسي بيده ما يسرني أنه ذهب قطعا أنفقه في سبيل الله أدع منه قيراطا " وفي رواية سويد بن الحارث عن أبي ذر " ما يسرني أن لي أحدا ذهبا أموت يوم أموت وعندي منه دينار أو نصف دينار". واختلفت ألفاظ الرواة أيضا في حديث أبي هريرة ثاني حديثي الباب كما سأذكره. قوله (تمضي علي ثالثة) أي ليلة ثالثة، قيل وإنما قيد بالثلاثة لأنه لا يتهيأ تفريق قدر أحد من الذهب في أقل منها غالبا، ويعكر عليه رواية " يوم وليلة " فالأولى أن يقال الثلاثة أقصى ما يحتاج إليه في تفرقة مثل ذلك، والواحدة أقل ما يمكن. قوله (إلا شيئا أرصده لدين) أي أعداه أو أحفظه. وهذا الإرصاد أعم من أن يكون لصاحب دين غائب حتى يحضر فيأخذه، أو لأجل وفاء دين مؤجل حتى يحل فيوفى. ووقع في رواية حفص وأبي شهاب جميعا عن الأعمش " إلا دينار " بالرفع، والنصب والرفع جائزان لأن المستثنى منه مطلق عام والمستثنى مقيد خاص فاتجه للنصب، وتوجيه الرفع أن المستثنى منه في سياق النفي وجواب لو هنا في تقدير النفي، ويجوز أن يحمل النفي الصريح في أن لا يمر على حمل إلا على الصفة، وقد فسر الشيء في هذه الرواية بالدينار، ووقع في رواية سويد بن الحارث عن أبي ذر " وعندي منه دينار أو نصف دينار " وفي رواية سالم ومنصور " أدع منه قيراطا. قال قلت: قنطارا؟ قال: قيراطا " وفيه " ثم قال يا أبا ذر إنما أقول الذي هو أقل " ووقع في رواية الأحنف " ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير " فظاهره نفي محبة حصول المال ولو مع الإنفاق وليس مرادا، وإنما المعنى نفي إنفاق البعض مقتصرا عليه، فهو يحب إنفاق الكل إلا ما استثنى، وسائر الطرق تدل على ذلك، ويؤيده أن في رواية سليمان بن يسار عن أبي هريرة عند أحمد " ما يسرني أن أحدكم هذا ذهبا أنفق منه كل يوم في سبيل الله فيمر بي ثلاثة أيام وعندي منه شيء إلا شيء أرصده لدين " ويحتمل أن يكون على ظاهره والمراد بالكراهة الإنفاق في خاصة نفسه لا في سبيل الله فهو محبوب. قوله (إلا أن أقول به في عباد الله) هو استثناء بعد استثناء فيفيد الإثبات، فيؤخذ منه أن نفي محبة المال مقيدة بعدم الإنفاق فيلزم محبة وجوده مع الإنفاق، فمادام الإنفاق مستمرا لا يكره وجود المال، وإذا انتفى الإنفاق ثبتت كراهية وجود المال، ولا يلزم من ذلك كراهية حصول شيء آخر ولو كان قدر أحد أو أكثر مع استمرار الإنفاق. قوله (هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه) هكذا اقتصر على ثلاث، وحمل على المبالغة لأن العطية لمن بين يديه هي الأصل، والذي يظهر لي أن ذلك من تصرفات الرواة، وأن أصل الحديث مشتمل على الجهات الأربع، ثم وجدته في الجزء الثالث من " البشرانيات " من رواية أحمد بن ملاعب عن عمر ابن حفص بن غياث عن أبيه بلفظ " إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا وهكذا وهكذا، وأرانا بيده " كذا فيه بإثبات الأربع، وقد أخرجه المصنف في الاستئذان عن عمر بن حفص مثله، لكن اقتصر من الأربع على ثلاث، وأخرجه أبو نعيم من طريق سهل بن بحر عن عمر بن حفص فاقتصر على ثنتين. قوله (ثم مشى ثم قال: ألا إن الأكثرين هم المقلون يوم القيامة) في رواية أبي شهاب في الاستقراض ورواية حفص في الاستئذان " هم الأقلون " بالميم في الموضعين. وفي رواية عبد العزيز بن رفيع الماضية في الباب قبله " إن المكثرين هم المقلون " بالميم في الموضعين، ولأحمد من رواية النعمان الغفاري عن أبي ذر " إن المكثرين الأقلون " والمراد الإكثار من المال والإقلال من ثواب الآخرة وهذا في حق من كان مكثرا ولم يتصف بما دل عليه الاستثناء بعده من الإنفاق. قوله (إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله ومن خلفه) في رواية أبي شهاب " إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، وأشار أبو شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله " وفي رواية أبي معاوية عن الأعمش عند أحمد " إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره " فاشتملت هذه الروايات على الجهات الأربع وإن كان كل منها اقتصر على ثلاث، وقد جمعها عبد العزيز بن رفيع في روايته ولفظه " إلا من أعطاه الله خيرا - أي مالا - فنفح بنون وفاء ومهملة أي أعطى كثيرا بغير تكلف يمينا وشمالا وبين يديه ووراءه " وبقي من الجهات فوق وأسفل، والإعطاء من قبل كل منهما ممكن، لكن حذف لندوره. وقد فسر بعضهم الإنفاق من وراء بالوصية، وليس قيدا فيه بل قد يقصد الصحيح الإخفاء فيدفع لمن وراءه مالا يعطى به من هو أمامه. وقوله "هكذا " صفة لمصدر محذوف أي أشار إشارة مثل هذه الإشارة، وقوله "من خلفه " بيان للإشارة وخص عن اليمين والشمال لأن الغالب في الإعطاء صدوره باليدين، وزاد في رواية عبد العزيز بن رفيع " وعمل فيه خيرا " أي حسنة وفي سياقه جناس تام في قوله أعطاه الله خيرا. وفي قوله وعمل فيه خيرا، فمعنى الخير الأول المال والثاني الحسنة. قوله (وقليل ما هم) ما زائدة مؤكدة للقلة، ويحتمل أن تكون موصوفة، ولفظ قليل هو الخبر وهم هو المبتدأ والتقدير وهم قليل، وقدم الخبر للمبالغة في الاختصاص. قوله (ثم قال لي: مكانك) بالنصب أي الزم مكانك، وقوله "لا تبرح " تأكيد لذلك، ورفع لتوهم أن الأمر بلزوم المكان ليس عاما في الأزمنة، وقوله "حتى آتيك " غاية للزوم المكان المذكور. وفي رواية حفص " لا تبرح يا أبا ذر حتى أرجع " ووقع في رواية عبد العزيز بن رفيع " فمشيت معه ساعة، فقال لي اجلس هاهنا، فأجلسني في قاع " أي أرض سهلة مطمئنة. قوله (ثم انطلق في سواد الليل) فيه إشعار بأن القمر كان قد غاب. قوله (حتى توارى) أي غاب شخصه، زاد أبو معاوية " عني " وفي رواية حفص " حتى غاب عني " وفي رواية عبد العزيز " فأطلق في الحرة - أي دخل فيها - حتى لا أراه " وفي رواية أبي شهاب " فتقدم غير بعيد " زاد في رواية عبد العزيز " فأطال اللبث". قوله (فسمعت صوتا قد ارتفع) في رواية أبي معاوية " فسمعت لغطا وصوتا". قوله (فتخوفت أن يكون أحد عرض للنبي صلى الله عليه وسلم) أي تعرض له بسوء. ووقع في رواية عبد العزيز " فتخوفت أن يكون عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم " وهو بضم أول عرض على البناء للمجهول. قوله (فأردت أن آتيه) أي أتوجه إليه، ووقع في رواية عبد العزيز " فأردت أن أذهب " أي إليه ولم يرد أن يتوجه إلى حال سبيله بدليل رواية الأعمش في الباب. قوله (فذكرت قوله لا تبرح فلم أبرح حتى أتاني) في رواية أبي معاوية عن الأعمش " فانتظرته حتى جاء". قوله (قلت يا رسول الله لقد سمعت صوتا تخوفت فذكرت له) في رواية أبي معاوية " فذكرت له الذي سمعت " وفي رواية أبي شهاب " فقلت يا رسول الله الذي سمعت لو قال الصوت الذي سمعت " كذا فيه بالشك وفي رواية عبد العزيز " ثم إني سمعته وهو يقول وإن سرق وإن زنى، فقلت يا رسول الله من تكلم في جانب الحرة ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا". قوله (فقال وهل سمعته؟ قلت نعم. قال ذلك جبريل) أي الذي كنت أخاطبه، أو ذلك صوت جبريل. قوله (أتاني) زاد في رواية حفص " فأخبرني". ووقع في رواية عبد العزيز " عرض لي - أي ظهر - فقال: بشر أمتك " ولم أر لفظ التبشير في رواية الأعمش. قوله (من مات لا يشرك بالله شيئا) زاد الأعمش " من أمتك". قوله (دخل الجنة) هو جواب الشرط. رتب دخول الجنة على الموت بغير إشراك بالله، وقد ثبت الوعيد بدخول النار لمن عمل بعض الكبائر، وبعدم دخول الجنة لمن عملها فلذلك وقع الاستفهام. قوله (قلت وإن زنى وإن سرق) قال ابن مالك: حرف الاستفهام في أول هذا الكلام مقدر ولا بد من تقديره. وقال غيره التقدير أو إن زنى أو إن سرق دخل الجنة. وقال الطيبي: أدخل الجنة وإن زنى وإن سرق. والشرط حال، ولا يذكر الجواب مبالغة، وتتميما لمعنى الإنكار قال وإن زنى وإن سرق. ووقع في رواية عبد العزيز ابن رفيع " قلت يا جبريل وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم". وكررها مرتين للأكثر وثلاثا للمستملي وزاد في آخر الثالثة " وإن شرب الخمر " وكذا وقع التكرار ثلاثا في رواية أبي الأسود عن أبي ذر في اللباس، لكن بتقديم الزنا على السرقة كما في رواية الأعمش، ولم يقل " وإن شرب الخمر " ولا وقعت في رواية الأعمش، وزاد أبو الأسود " على رغم أنف أبي ذر " قال وكان أبو ذر إذا حدث بهذا الحديث يقول " وإن رغم أنف أبي ذر " وزاد حفص ابن غياث في روايته عن الأعمش: قال الأعمش قلت لزيد بن وهب إنه بلغني أنه أبو الدرداء قال أشهد لحدثنيه أبو ذر بالربذة. قال الأعمش: وحدثني أبو صالح عن أبي الدرداء نحوه. وأخرجه أحمد عن أبي نمير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي الدرداء بلفظ " إنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة " نحوه، وفيه " وإن رغم أنف أبي الدرداء"، قال البخاري في بعض النسخ عقب رواية حفص: حديث أبي الدرداء مرسل لا يصح إنما أردنا للمعرفة أي إنما أردنا أن نذكره للمعرفة بحاله. قال: والصحيح حديث أبي ذر قيل له: فحديث عطاء ابن يسار عن أبي للدرداء؟ فقال: مرسل أيضا لا يصح. ثم قال: اضربوا على حديث أبي الدرداء. قلت: فلهذا هو ساقط من معظم النسخ، وثبت في نسخة الصغاني، وأوله قال أبو عبد الله حديث أبي صالح عن أبي الدرداء مرسل، فساقه إلخ. ورواية عطاء بن يسار التي أشار إليها أخرجها النسائي من رواية محمد بن أبي حرملة عن عطاء بن يسار عن أبي الدرداء أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم هو يقص على المنبر يقول قلت: وهما قصتان متغايرتان، وإن اشتركتا في المعنى الأخير وهو سؤال الصحابي بقوله وإن زنى وإن سرق، واشتركا أيضا في قوله وإن رغم، ومن المغايرة بينهما أيضا وقوع المراجعة المذكورة بين النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل في رواية أبي ذر دون أبي الدرداء، وله عن أبي الدرداء طرق أخرى منها للنسائي من رواية محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبي الدرداء نحو رواية عطاء بن يسار، ومنها للطبراني من طريق أم الدرداء عن أبي الدرداء رفعه بلفظ " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، فقال أبو الدرداء: وإن زنى وإن سرق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء " ومن طريق أبي مريم عن أبي الدرداء نحوه، ومن طريق كعب بن ذهل " سمعت أبا الدرداء رفعه. أتاني آت من ربي فقال من يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما، فقلت: يا رسول الله وإن زنى وإن سرق؟ قال: نعم ثم ثلثت فقال على رغم أنف عويمر فرددها، قال فأنا رأيت أبا الدرداء يضرب أنفه بإصبعه " ومنها لأحمد من طريق واهب بن عبد الله المغافري " عن أبي الدرداء رفعه: من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي الدرداء. قال فخرجت لأنادي بها في الناس، فلقيني عمر فقال: ارجع، فإن الناس إن يعلموا بهذا اتكلوا عليها، فرجعت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدق عمر " قلت: وقد وقعت هذه الزيادة الأخيرة لأبي هريرة، ويأتي بسط ذلك في " باب من جاهد في طاعة الله تعالى " قريبا. الحديث: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا لَسَرَّنِي أَنْ لَا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلَاثُ لَيَالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا شَيْئًا أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ الشرح: قوله (حدثنا أحمد بن شبيب) بفتح المعجمة وموحدتين مثل حبيب، وهو الحبطي بفتح المهملة والموحدة ثم الطاء المهملة نسبة إلى الحبطات من بني تميم، وهو بصري صدوق ضعفه ابن عبد البر تبعا لأبي الفتح الأزدي والأزدي غير مرضى فلا يتبع في ذلك، وأبوه يكنى أبا سعيد، روى عنه ابن وهب وهو من أقرانه، ووثقه ابن المديني. قوله (وقال الليث حدثني يونس) هذا التعليق وصله الذهلي في " الزهريات " عن عبد الله بن صالح عن الليث، وأراد البخاري بإيراده تقوية رواية أحمد بن شبيب، ويونس هو ابن يزيد. قوله (لو كان لي) زاد في رواية الأعوج عن أبي هريرة عند أحمد في أوله " والذي نفسي بيده " وعنده في رواية همام عن أبي هريرة " والذي نفس محمد بيده". قوله (مثل أحد ذهبا) في رواية الأعرج لو أن أحدكم عندي ذهبا". قوله (ما يسرني أن لا تمر علي ثلاث ليال وعندي منه شيء إلا شيئا أرصده لدين) في رواية الأعرج " إلا أن يكون شيء أرصده في دين علي " وفي رواية همام " وعندي منه دينار أجد من يقبله ليس شيئا أرصده في دين علي " قال ابن مالك: في هذا الحديث وقوع التمني بعد مثل، وجواب لو مضارعا منفيا بما، وحق جوابها أن يكون ماضيا مثبتا نحو لو قام لقمت، أو بلم نحو لو قام لم أقم. والجواب من وجهين: أحدهما أن يكون وضع المضارع موضع الماضي الواقع جوابا كما وقع موضعه وهو شرط في قوله تعالى وفيه أيضا وقوع لا بين أن وتمر وهي زائدة والمعنى ما يسرني أن تمر. وقال الطيبي: قوله " ما يسرني " هو جواب " لو " الامتناعية فيفيد أنه لم يسره المذكور بعده لأنه لم يكن عنده مثل أحد ذهبا، وفيه نوع مبالغة لأنه إذا لم يسره كثرة ما ينفقه فكيف ما لا ينفقه قال: وفي التقييد بالثلاثة تتميم ومبالغة في سرعة الإنفاق، فلا تكون لا زائدة كما قال ابن مالك بل النفي فيها على حاله. قلت: ويؤيد قول ابن مالك الرواية الماضية قبل في حديث أبي ذر بلفظ " ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبا تمضي على ثالثة". وفي حديث الباب من الفوائد أدب أبي ذر مع النبي صلى الله عليه وسلم وترقبه أحواله وشفقته عليه حتى لا يدخل عليه أدنى شيء مما يتأذى به. وفيه حسن الأدب مع الأكابر وأن الصغير إذا رأى الكبير منفردا لا يتسور عليه ولا يجلس معه ولا يلازمه إلا بإذن منه. وهذا بخلاف ما إذا كان في مجمع كالمسجد والسوق فيكون جلوسه معه بحسب ما يليق به. وفيه جواز تكنية المرء نفسه لغرض صحيح كأن يكون أشهر من اسمه، ولا سيما إن كان الله مشتركا بغيره وكنيته فردة. وفيه جواز تفدية الصغير الكبير بنفسه وبغيرها، والجواب بمثل لبيك وسعديك زيادة في الأدب. وفيه الانفراد عند قضاء الحاجة. وفيه أن امتثال أمر الكبير والوقوف عنده أولى من ارتكاب ما يخالفه بالرأي ولو كان فيما يقتضيه الرأي توهم دفع مفسدة حتى يتحقق ذلك فيكون دفع المفسدة أولى. وفيه استفهام التابع من متبوعه على ما يحصل له فائدة دينية أو علمية أو غير ذلك. وفيه الأخذ بالقرائن لأن أبا ذر لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم، " أتبصر أحدا " فهم منه أنه يريد أن يرسله في حاجة فنظر إلى ما على أحد من الشمس ليعلم هل يبقى من النهار قدر يسعها. وفيه أن محل الأخذ بالقرينة إن كان في اللفظ ما يخصص ذلك، فإن الأمر وقع على خلاف ما فهمه أبو ذر من القرينة، فيؤخذ منه أن بعض القرائن لا يكون دالا على المراد وذلك لضعفه. وفيه المراجعة في العلم بما تقرر عند الطالب في مقابلة ما يسمعه مما يخالف ذلك، لأنه تقرر عند أبي ذر من الآيات والآثار الواردة في وعيد أهل الكبائر بالنار وبالعذاب، فلما سمع أن من مات لا يشرك دخل الجنة استفهم عن ذلك بقوله " وإن زنى وإن سرق " واقتصر على هاتين الكبيرتين لأنهما كالمثالين فيما يتعلق بحق الله وحق العباد، وأما قوله في الرواية الأخرى " وإن شرب الخمر " فاللإشارة إلى فحش تلك الكبيرة لأنها تؤدي إلى خلل العقل الذي شرف به الإنسان على البهائم، وبوقوع الخلل فيه قد يزول التوقي الذي يحجز عن ارتكاب بقية الكبائر. وفيه أن الطالب إذا ألح في المراجعة يزجر بما من يليق به أخذا من قوله " وإن رغم أنف أبي ذر " وقد حمله البخاري كما مضى في اللباس على من تاب عند الموت، وحمله غيره على أن المراد بدخول الجنة أعم من أن يكون ابتداء أو بعد المجازاة على المعصية، والأول هو وفق ما فهمه أبو ذر، والثاني أولى للجمع بين الأدلة، ففي الحديث حجة لأهل السنة ورد على من زعم من الخوارج والمعتزلة أن صاحب الكبيرة إذا مات عن غير توبة يخلد في النار، لكن في الاستدلال به لذلك نظر، لما مر من سياق كعب بن ذهل عن أبي الدرداء أن ذلك في حق من عمل سوءا أو ظلم نفسه ثم استغفر، وسنده جيد عند الطبراني. وحمله بعضهم على ظاهره وخص به هذه الأمة لقوله فيه " بشر أمتك " وإن من مات من أمتي، وتعقب بالأخبار الصحيحة الواردة في أن بعض عصاة هذه الأمة يعذبون، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة " المفلس من أمتي " الحديث. وفيه تعقب على من تأول في الأحاديث الواردة في أن " من شهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " وفي بعضها " حرم على النار " أن ذلك كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي، وهو مروي عن سعيد بن المسيب والزهري، ووجه التعقب ذكر الزنا والسرقة فيه فذكر على خلاف هذا التأويل، وحمله الحسن البصري على من قال الكلمة وأدى حقها بأداء ما وجب واجتناب ما نهى، ورجحه الطيبي إلا أن هذا الحديث يخدش فيه، وأشكل الأحاديث وأصعبها قوله " لا يلقي الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة " وفي آخره وإن زنى وإن سرق " وقيل أشكلها حديث أبي هريرة عند مسلم بلفظ " ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار " لأنه أتى فيه بأداة الحصر ومن الاستغراقية وصرح بتحريم النار، بخلاف قوله " دخل الجنة " فإنه لا ينفي دخول النار أولا، قال الطيبي: لكن الأول يترجح بقوله " وإن زنى وإن سرق " لأنه شرط لمجرد التأكيد، ولا سيما وقد كرره ثلاثا مبالغة وختم بقوله " وإن رغم أنف أبي ذر " تتميما للمبالغة، والحديث الآخر مطلق يقبل التقييد فلا يقاوم قوله " وإن زنى وإن سرق وقال النووي بعد أن ذكر المتون في ذلك والاختلاف في هذا الحكم: مذهب أهل السنة بأجمعهم أن أهل الذنوب في المشيئة، وأن من مات موقنا بالشهادتين يدخل الجنة، فإن كان دينا أو سليما من المعاصي دخل الجنة برحمة الله وحرم على النار، وإن كان من المخلطين بتضييع الأوامر أو بعضها وارتكاب النواهي أو بعضها ومات عن غير توبة فهو في خطر المشيئة، وهو بصدد أن يمضي عليه الوعيد إلا أن يشاء الله أن يعفو عنه، فإن شاء أن يعذبه فمصيره إلى الجنة بالشفاعة، انتهى. وعلى هذا فتقييد اللفظ الأول تقديره وإن زنى وإن سرق دخل الجنة، لكنه قبل ذلك إن مات مصرا على المعصية في مشيئة الله، وتقدير الثاني حرمه الله على النار إلا أن يشاء الله أو حرمه على نار الخلود والله أعلم. قال الطيبي: قال بعض المحققين قد يتخذ من أمثال هذه الأحاديث المبطلة ذريعة إلى طرح التكاليف وإبطال العمل ظنا أن ترك الشرك كاف، وهذا يستلزم طي بساط الشريعة وإبطال الحدود، وأن الترغيب في الطاعة والتحذير عن المعصية لا تأثير له بل يقتضي الانخلاع عن الدين والانحلال عن قيد الشريعة والخروج عن الضبط والولوج في الخبط وترك الناس سدى مهملين وذلك يفضي إلى خراب الدنيا بعد أن يفضي إلى خراب الأخرى، مع أن قوله في بعض طرق الحديث " أن يعبدوه " يتضمن جميع أنواع التكاليف الشرعية وقوله " ولا يشركوا به شيئا " يشمل مسمى الشرك الجلي والخفي، فلا راحة للتمسك به في ترك العمل لأن الأحاديث إذا ثبتت وجب ضم بعضها إلى بعض فإنها في حكم الحديث الواحد، فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها وبالله التوفيق. وفيه جواز الحلف بغير تحليف، ويستحب إذا كان لمصلحة كتأكيد أمر مهم وتحقيقه ونفي المجاز عنه. وفي قوله في بعض طرقه والذي نفس محمد بيده تعبير الإنسان عن نفسه باسمه دون ضميره، وقد ثبت بالضمير في الطريق الأخرى " والذي نفسي بيده " وفي الأول نوع تجريد، وفي الحلف بذلك زيادة في التأكيد لأن الإنسان إذا استحضر أن نفسه وهي أعز الأشياء عليه بيد الله تعالى يتصرف فيها كيف يشاء استشعر الخوف منه فارتدع عن الحلف على ما لا يتحققه، ومن ثم شرع تغليظ الأيمان بذكر الصفات الإلهية ولا سيما صفات الجلال. وفيه الحث على الإنفاق في وجوه الخير، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أعلى درجات الزهد في الدنيا بحيث إنه لا يحب أن يبقى بيده شيء من الدنيا إلا لإنفاقه فيمن يستحقه، وإما لإرصاده لمن له حق، وإما لتعذر من يقبل ذلك منه لتقييده في رواية همام عن أبي هريرة الآتية في كتاب التمني بقوله " أجد من يقبله " ومنه يؤخذ جواز تأخير الزكاة الواجبة عن الإعطاء إذا لم يوجد من يستحق أخذها، وينبغي لمن وقع له ذلك أن يعزل القدر الواجب من ماله ويجتهد في حصول من يأخذه، فإن لم يجد فلا حرج عليه ولا ينسب إلى تقصير في حبسه. وفيه تقديم وفاء الدين على صدقة التطوع. وفيه جواز الاستقراض وقيده ابن بطال باليسير أخذا من قوله " إلا دينارا " قال ولو كان عليه أكثر من ذلك لم يرصد لأدائه دينارا واحدا لأنه كان أحسن الناس قضاء. قال ويؤخذ من هذا أنه لا ينبغي الاستغراق في الدين بحيث لا يجد له وفاء فيعجز عن أدائه، وتعقب بأن الذي فهمه من لفظ الدينار من الوحدة ليس كما فهم، بل إنما المراد به الجنس، وأما قوله في الرواية الأخرى " ثلاثة دنانير " فليست الثلاثة فيه للتقليل بل للمثال أو لضرورة الواقع، وقد قيل إن المراد بالثلاثة أنها كانت كفايته فيما يحتاج إلى إخراجه في ذلك اليوم، وقيل بل هي دينار الدين كما في الرواية الأخرى ودينار للإنفاق على الأهل ودينار للإنفاق على الضيف، ثم المراد بدينار الدين الجنس ويؤيده تعبيره في أكثر الطرق بالشيء على الإبهام فيتناول القليل والكثير. وفي الحديث أيضا الحث على وفاء الديون وأداء الأمانات وجواز استعمال " لو " عند تمني الخير وتخصيص الحديث الوارد عن استعمال " لو " على ما يكون في أمر غير محمود شرعا. وادعى المهلب أن قوله في رواية الأحنف عن أبي ذر " أتبصر أحدا؟ قال فنظرت ما عليه من الشمس " الحديث أنه ذكر للتمثيل في تعجيل إخراج الزكاة وأن المراد ما أحب أن أحبس ما أوجب الله على إخراجه بقدر ما بقي من النهار، وتعقبه عياض فقال: هو بعيد في التأويل، وإنما السياق بين في أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن ينبه على عظم أحد ليضرب به المثل في أنه لو كان قدره ذهبا ما أحب أن يؤخر عنده إلا لما ذكر من الإنفاق والإرصاد، فظن أبو ذر يريد أن يبعثه في حاجة ولم يكن ذاك مرادا إذ ذاك كما تقدم. وقال القرطبي: إنما استفهمه عن رؤيته ليستحضر قدره حتى يشبه له ما أراد بقوله " إن لي مثله ذهبا". وقال عياض: قد يحتج به من يفضل للفقر على الغنى، وقد يحتج به من يفضل الغنى على الفقر، ومأخذ كل منهما واضح من سياق الخبر. وفيه الحض على إنفاق المال في الحياة وفي الصحة وترجيحه على إنفاقه عند الموت، وقد مضى فيه حديث " أن تصدق وأنت صحيح شحيح " وذلك أن كثيرا من الأغنياء يشح بإخراج ما عنده ما دام في عافية فيأمل البقاء ويخشى الفقر، فمن خالف شيطانه وقهر نفسه إيثارا لثواب الآخرة فاز، ومن بخل بذلك لم يأمن الجور في الوصية، وإن سلم لم يأمن تأخير تنجيز ما أوصى به أو تركه أو غير ذلك من الآفات ولا سيما إن خلف وارثا غير موفق فيبذره في أسرع وقت ويبقى وباله على الذي جمعه، والله المستعان. *3* وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى أَيَحْسِبُونَ أَنَّ مَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ لَمْ يَعْمَلُوهَا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْمَلُوهَا الشرح: قوله (باب) بالتنوين (الغنى غنى النفس) أي سواء كان المتصف بذلك قليل المال أو كثيره، والغنى بكسر أوله مقصور وقد مد في ضرورة الشعر، وبفتح أوله مع المد هو الكفاية. قوله (وقال الله تعالى: أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين - إلى قوله - هم لها عاملون) في رواية أبي ذر " إلى عاملون " وهذه رأس الآية التاسعة من ابتداء الآية المبدأ بها هنا، والآيات التي بين الأولى والثانية وبين الأخيرة والتي قبلها اعترضت في وصف المؤمنين، والضمير قوله وأما قوله ثم مناسبة الآية للحديث أن خيرية المال ليست لذاته بل بحسب ما يتعلق به وإن كان يسمى خيرا في الجملة، وكذلك صاحب المال الكثير ليس غنيا لذاته بل بحسب تصرفه فيه. فإن كان في نفسه غنيا لم يتوقف في صرفه في الواجبات والمستحبات من وجوه البر والقربات، وإن كان في نفسه فقيرا أمسكه وامتنع من بذله فيما أمر به خشية من نفاده، فهو في الحقيقة فقير صورة ومعنى وإن كان المال تحت يده، لكونه لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الأخرى، بل ربما كان وبالا عليه. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ الشرح: قوله (حدثنا أبو بكر) هو ابن عياش بمهملة وتحتانية ثم معجمة، وهو القارئ المشهور. وأبو حصين بفتح أوله اسمه عثمان. والإسناد كله كوفيون إلى أبي هريرة. قوله (عن كثرة العرض) بفتح المهملة والراء ثم ضاد معجمة، أما عن فهي سببية، وأما العرض فهو ما ينتفع به من متاع الدنيا، ويطلق بالاشتراك على ما يقابل الجوهر وعلى كل ما يعرض للشخص من مرض ونحوه. وقال أبو عبد الملك البوني فيما نقله ابن التين عنه قال: اتصل بي عن شيخ من شيوخ القيروان أنه قال: العرض بتحريك الراء الواحد من العروض التي يتجر فيها، قال: وهو خطأ، فقد قال الله تعالى: وقال أبو عبيد: العروض الأمتعة وهي ما سوى الحيوان والعقار وما لا يدخله كيل ولا وزن، وهكذا حكاه عياض وغيره. وقال ابن فارس: العرض بالسكون كل ما كان من المال غير نقد وجمعه عروض، وأما بالفتح فما يصيبه الإنسان من حظه في الدنيا، قال تعالى: قوله (إنما الغنى غنى النفس) في رواية الأعرج عن أبي هريرة عند أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما " إنما الغنى في النفس " وأصله في مسلم، ولابن حبان من حديث أبي ذر " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم. قال: وترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب " قال ابن بطال معنى الحديث ليس حقيقة الغنى كثرة المال لأن كثيرا ممن وسع الله عليه في المال لا يقنع بما أوتي فهو يجتهد في الازدياد ولا يبالي من أين يأتيه، فكأنه فقير لشدة حرصه، وإنما حقيقة الغنى غنى النفس، وهو من استغنى بما أوتي وقنع به ورضي ولم يحرص على الازدياد ولا ألح في الطلب، فكأنه غني. وقال القرطبي: معنى الحديث إن الغنى النافع أو العظيم أو الممدوح هو غنى النفس، وبيانه أنه إذا استغنت نفسه كفت عن المطامع فعزت وعظمت وحصل لها من الحظوة والنزاهة والشرف والمدح أكثر من الغنى الذي يناله من يكون فقير النفس لحرصه فإنه يورطه في رذائل الأمور وخسائس الأفعال لدناءة همته وبخله، ويكثر من يذمه من الناس ويصغر قدره عندهم فيكون أحقر من كل حقير وأذل من كل ذليل. والحاصل أن المتصف بغنى النفس يكون قانعا بما رزقه الله، لا يحرص على الازدياد لغير حاجة ولا يلح في الطلب ولا يحلف في السؤال، بل يرضى بما قسم الله له، فكأنه واجد أبدا، والمتصف بفقر النفس على الضد منه لكونه لا يقنع بما أعطى بل هو أبدا في طلب الازدياد من أي وجه أمكنه، ثم إذا فاته المطلوب حزن وأسف، فكأنه فقير من المال لأنه لم يستغن بما أعطى، فكأنه ليس بغنى، ثم غنى النفس إنما ينشأ عن الرضا بقضاء الله تعال والتسليم لأمره علما بأن الذي عند الله خير وأبقى، فهو معرض عن الحرض والطلب، وما أحسن قول القائل: غنى النفس ما يكفيك من سد حاجة فإن زاد شيئا عاد ذاك الغنى فقرا وقال الطيبي: يمكن أن يراد بغنى النفس حصول الكمالات العلمية والعملية، وإلى ذلك أشار القائل: ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر أي ينبغي أن ينفق أوقاته في الغنى الحقيقي وهو تحصيل الكمالات، لا في جمع المال فإنه لا يزداد بذلك إلا فقرا انتهى. وهذا وإن كان يمكن أن يراد لكن الذي تقدم أظهر في المراد، وإنما يحصل غنى النفس بغنى القلب بأن يفتقر إلى ربه في جميع أموره فيتحقق أنه المعطي المانع فيرضى بقضائه ويشكره على نعمائه ويفزع إليه في كشف ضرائه، فينشأ عن افتقار القلب لربه غنى نفسه عن غيره وبه تعالى، والغنى الوارد في قوله والله أعلم.
|